السبت، 22 أبريل 2017

سفر نشيد الانشاد ج1



سفر العرس السماوي:
إذ نتحدث عن "العرس" أو "الزواج" يليق بنا ألا نحبس أفكارنا في نطاق الجسد، فالزواج هو اتحاد سري داخلي عميق يحمل حبًا فوق حدود الجسديات... هذا عن الحياة الزوجية بين بني البشر، فماذا نقول عن الزوجية الروحية التي فيها تقبل النفس ربها كعريس لها، يضمها إليه لتكون واحدًا معه!.ففي العهد القديم فهم الأنبياء العهد الذي بين الله وشعبه كعهد زوجي فيقول إشعياء النبي مثلًا: "لأن الرب يُسرّ بك... كفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك..." (62: 4-5). ويقول هوشع النبي: "ويكون في ذلك اليوم يقول الرب أنك تدعيني "رجُلّي"... وأخطبك لنفسي إلى الأبد، وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والأحسان والمراحم، اخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب" (2: 14-20). وهكذا جاءت عبارات مماثلة في سفر الخروج (45) وإرميا (2: 2)، حزقيال (16: 7-14).هذا الاتحاد الزوجي الذي عبر عنه الأنبياء، كان رمزًا لاتحاد أكمل حققه "الكلمة الإلهي" أو "اللوغوس" في ملء الزمان. فسفر النشيد هو سفر العريس السماوي، فيه تتحقق إرادة الله الأزلية نحو الإنسان... هو نبوة لسرّ الزفاف الاسخاتولوجي (الاخروي)، فيه تزف الكنيسة الواحدة، الممتدة من آدم إلى آخر الدهور، عروسًا مقدسة.هذا العرس تطلع إليه يوحنا المعمدان حين قال: "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 19). وهو غاية كرازة الرسل، إذ يقول الرسول: "فأني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2)، "هذا السرّ العظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة ويقول القديس يوحنا: "رأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من عند الله كعروس مزينة لرجلها" (رؤ 21: 2).


تفسير بعض الآيات ذات الايحاءات الجنسية ارثوذكسيا
2لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ، لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ. 3لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ، لِذلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى " [٢-٣].
إنه صوت الكنيسة الجامعة وقد رفعت أنظارها إلى الصليب، فاشتمت رائحته الطيبة، ورأت اسمه مهرقًا من أجلها، فوجدت لذة في حبه، لهذا أخذت تناجيه، قائلة: "لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ". وهنا نلاحظ الآتي:
1. إنها تطلب قبلات فم الآب. "لِيُقَبِّلْنِي (هو)". حقًا لقد قبلها الله بقبلات كثيرة على مر العصور. أعلن حبه لها فخلق العالم كله من أجلها، أوجدها من العدم، وأعطاها صورته ومثاله، وباختصار لم يعوزها شيء. بعد السقوط لم يتركها بل وعدها بالخلاص، ووهبها الناموس المكتوب عونًا، وأرسل لها الأنبياء يؤكدون لها خلاصه... لكن هذا كله لن يشبع العروس، فإنها تريده هو بنفسه يقترب إليها ويهبها ذاته... تريد كل قبلات فمه المباشرة! وكأنها بالعروس التي تفرح بالعريس الذي يطلب يدها ويرسل لها أقاربه، ويبعث إليها الهدايا المستمرة الثمينة... لكنه لن تشبع إنما تطلبه هو!
في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [إن الكنيسة في العهد القديم كانت كفتاة صغيرة غير ناضجة، لم تتمتع بصحبة العريس نفسه مباشرة بل تمتعت بصحبة أصحابه أي الملائكة والآباء والأنبياء، ومن خلالهم تقبلت قبلات الله التي هي تعليم العهد الجديد ووصاياه[21]. كانت في طريق النمو، تسير نحو النضوج لترى عريسها قادمًا إليها على جبال الناموس وتلال النبوات فالتهب قلبها بالحب نحوه، قائلة: "ليأت وينزل إلى ويقبلني بنفسه على الصليب، ليضمني إليه بالحب العلمي فأتحد معه". هذا ما أعلنه الرسول بولس في حديثه مع العبرانيين إذ يقول: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب 1: 1-2)... كلمنا بقبلات الحب العملي المباشر. لا تستحي أن تطلب من الابن قبلات الآب، لأن ما هو للآب فهو للابن أيضًا. وما قدمه الابن بإرادته إنما قدمه طاعة الآب. لهذا يؤكد الكتاب: "هكذا أحب الله (الآب) العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو ٣: ١٦)، وفي نفس الوقت يقول الرسول "أحبني وأسلم ذاته من أجلي"... إن قبلات الصليب لنا هي علامة حب الآب والابن أيضًا


لقد سجل لنا الكتاب المقدس نوعيات مختلفة من القبلات، لكنها ليست بالقبلات المشبعة، فقد ودع لابان بنيه وبناته بالقبلات (تك ٣١: ٥٥)، واستقبل يعقوب حفيديه ابني يوسف بالقبلات (تك ٤٨: ١٠)، وودعت نعمى كنتاها بالبكاء والتقبيل (راعوث ١: ٩)، وطلب إسحق من ابنه يعقوب أن يتقدم ويقبله ليأخذ بركة (تك ٢٧: ٢٦)، وتقدم أبشالوم بن داود ليقبل أبناء الشعب ليكسب قلوبهم (٢ صم ١٥: ٥)، وقبل يوناثان داود النبي علامة الصداقة وميثاق الوفاء (١ صم ٣٠: ٤١)، وودعت كنيسة أفسس الرسول بولس بالبكاء والتقبيل (أع ٢٠: ٣٧). هذه كلها قبلات تمت بسبب رباط الدم أو القرابة أو الصداقة أو علامة آلام الفراق... لكنها قبلات مؤقتة، أما الكنيسة فتطلب قبلات الحب الأبدي، قبلات فم الله التي لا تتوقف.
"4اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ. أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِكَ. نَذْكُرُ حُبَّكَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْرِ. بِالْحَقِّ يُحِبُّونَكَ [٤].
تقول: "إجذبني (أنا) فنجري (نحن) إليك،
أدخل (أنا) إلى حجالك، فنبتهج (نحن) ونفرح (نحن) بك ...".
هذا هو سرّ الصليب وفاعليته، إنه يحمل قوة الشهادة والجاذبية، وسرّ البهجة والفرح!
إذ تتمتع نفسي بك، وتكون أنت في داخلي خلال الصليب، وأصير أنا فيك، يتعرف الناس عليك خلالي ويطلبونك، حينئذ تمتلئ قلوبنا بهجة وفرحًا حتى السمائيون يفرحون أيضًا معنا!
أنجذب زكا العشار وراء السيد المسيح، فجمع الخطاة والعشارين ليلتقوا بالرب ويفرحوا به، وإذ جلست المرأة السامرية معه نادت أهل المدينة ليجالسوه وينعموا بحديثه الفعال.
هذا هو سرّ الكنيسة... قوة الصليب الجذابة، أما أن نسيت الكنيسة هذا الصليب واهتمت بطرق العالم فأنها لا تقدر أن تسابق العالم فيما يخصه، لكنها تغلبه بالحب خلال الصليب العامل في حياة أولادها.
بالصليب وحده تنجذب النفوس إلى الكنيسة خلال التوبة، أما وسائل العالم المغرية فتحطم صورة الكنيسة حتى في عيني العالم نفسه.
الحجال الإلهي:
"أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ" [٤].
طلبت النفس يد العريس السماوي قائلة: "اجذبني" لكي يسندها ويمسك بها ويدخل بها إلى حجاله الروحي في أبهج لقاء.
يرى بعض الآباء أن "الحجال الإلهي"، هو "سرّ المعمودية". ففي جرن المعمودية يلتقي المؤمن بالسيد المسيح عريسًا له. يلبس الإنسان الجديد، وينعم بالملكوت الإلهي. تلبس النفس مسيحها كثوب أبيض للعرس الأبدي، تلبسه كبرّ لها لسرّ قداستها، يتجمل به، وتحيا به إلى الأبد. في هذا يقول الرسول بولس: "قد لبستم المسيح" (غلا ٣: 2٧).
. 10مَا أَجْمَلَ خَدَّيْكِ بِسُمُوطٍ، وَعُنُقَكِ بِقَلاَئِدَ! 11نَصْنَعُ لَكِ سَلاَسِلَ مِنْ ذَهَبٍ مَعَ جُمَانٍ مِنْ فِضَّةٍ.12مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ. [١٠–١٢].
يمكننا أن نلخص ثمار الرعاية في الآتي:
1. يصير لها خدي الحمامة، أي تحمل روح الاتضاع مع العفة.
2. يتزين عنقها بروح الطاعة وخدمة الآخرين.
3. تتمتع بشبه الذهب ومرصعات الفضة، أي الناموس والشريعة، حتى تتمتع بالذهب ذاته أي "إنجيل النعمة" أو "الحياة السماوية".
1. خدي حمامة:
لقد تزين خدي الكنيسة بالسموط أي صفوف الجواهر، إذ حملت في داخلها الروح القدس الذي يملأ حياتها الداخلية، انعكس هذا على وجهها، فحمل ثمر الروح الذي هو الحب والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والإيمان والتعفف (غل ٥: ٢٢).
جاءت الترجمة السبعينية "ما أجمل خديك كحمامة"... وكأن سرّ جمال وجه الكنيسة هو تمتعها بثمار الروح القدس الذي يظهر على شكل حمامة.
ويعلق العلامة أوريجانوس على هذا النص قائلًا[50]: [إنه لم يقل: "ما أجمل خديك"، بل يقول: "ما أجمل ما صار إليه خديك". لقد أراد أن يوضح بأنهما لم يكونا قبلًا جميلين هكذا، أنما صار لها هذا الجمال بعد أن تقبلت (الكنيسة) قبلات العريس، وبعد أن جاءها ذاك الذي تحدث قلبلًا بالأنبياء. لقد طهر هذه الكنيسة لنفسه في جرن المياه، وجعلها بلا غضن أو دنس وأعطاها أن تعرف نفسها، بهذا صار خديها جميلين، فإن العفة والفضيلة والبتولية – الأمور التي لم تكن لها قبلًا – قد انتشرت فيها بجمال لذيذ خلال الكنيسة].
يُشير خد الحمامة إلى الوداعة والطهارة، فمن جهة الوداعة يوصينا السيد: "كونوا بسطاء كالحمام" (مت ١٠: ١٦)، أي لا تحملوا مكر العالم ودهاءه، وأما من جهة الطهارة، فإن هذا النوع من الحمام Turtle-dove الوارد في هذه العبارة يقول عنه العلامة أوريجانوس له طبيعة عجيبة، إن مات أحد الزوجين لا يقبل الطرف الآخر عوضًا عن المفقود...
يعلق العلامة أوريجانوس على هذا النص، قائلًا: [ينطبق رمز الحمامة Turtle-dove على الكنيسة تمامًا، أما لأنها لا تعرف أن تتحد مع آخر غير المسيح، أو لأن طيران الحمام يرمز للعفة والوداعة].
2. العنق المزين بقلائد:
عنق الإنسان – بغير زينة – غالبًا ما يُشير إلى غلاظة الطبع البشري، أما وقد تزين بمواهب الروح القدس فيصير رمزًا للجمال الروحي والرقة في احتمال الآخرين... هذه هي القلائد (الكردان أو العقد) الكنيسة! فقد كان عنقنا يحمل عارًا وخزيًا بسبب عصياننا وكبريائنا. أما الآن فصار يحمل نير المسيح، ويقبل طاعته، فصار له الجمال الروحي الفائق.
3. الذهب والفضة:
جاء في الترجمة السبعينية: "نصنع لك شبه ذهب مع مرصعات من الفضة، ما دام الملك على مائدته". فالكنيسة في العهد القديم لم يكن لها ذهب بل شبه الذهب ومرصعات من الفضة، أما وقد اتكأ الملك على مائدته صار لعروسه "الذهب".إذ اتكأ الرب الملك على صليبه صار لنا "الذهب" أي "الحياة السماوية" بعد أن كنا نعيش قبلًا في شبه السمويات، "شبه الذهب"، خلال الرموز والظلال (غلا ٣: ١٩؛ عب ١٠: ١؛ ١ كو ١٠: ١١).ويرى بعض الآباء أن كنيسة العهد القديم كانت تتمتع بشبه الذهب مع مرصعات الفضة، أي تتمتع بالناموس والأنبياء حيث كانت عفة الزيجة والترمل هي دستور الحياة، أما وقد جاء الملك البتول واتكأ على مائدته بعث في أعضاء جسده أمكانية "حياة البتولية" التي هي "شريعة السماء"، حيث هناك لا يزوجون ولا يتزوجون.
"صُرَّةُ الْمُرِّ حَبِيبِي (ابن أختي) لِيّ. بَيْنَ ثَدْيَيَّ يَبِيتُ" [١٣].
إن كان قد تألم لأجلها ومات فإنها تتقدم إليه بالمرّ الذي يُستخدم في دهن المسحة وفي الأطياب... تدخل معه إلى القبر تحمل المرّ لتكفين جسده.
لقد أدركت الملكة أن عريسها هو الملك "قاهر الموت" لا يستطيع القبر أن يمسك به ولا أبواب الهاوية أن تحجبه... عرفته أنه "القيامة" واهب الحياة، فأعدت له مرًّا في داخلها حتى يدخل إليها في قلبها، الذي صار قبرًا جديدًا... هناك بين ثدييها يبيت ليدخل إلى قبره المقدس، حيث لا تشتم فيه رائحة موت، بل ناردين ومرّ، ويتحول القبر إلى هيكل مقدس، يعلن الله فيه ويسكن.
ويلاحظ في هذه الدعوة التي توجهها الملكة للملك الآتي:
1. لا تُقدم الملكة المرّ بأية طريقة كانت وإنما تحزمه وتغلق عليه "صرة المرّ"، وكما يقول العلامة أوريجانوس[53]: [بهذا لا تتشتت رائحة المرّ خارجًا، بل تبقى في الداخل فتكون رائحته أطيب وأقوى، عندئذ يقطن الملك في قلبها حيث يجد راحته، ويسكن في حضنها].
2. استخدمت الملكة عبارة "صرة المرّ حبيبي ليّ"، لأنه بحسب الشريعة كل شيء غير مربوط أو مغلق يكون دنسًا (عد ١٩: ١٥)، والنفس التي تلمس ما هو دنس تتدنس. أما يسوع فليس فيه عيب قط، بل كل ما فيه طاهر ونقي... تتلامس معه النفس فتتقدس.
ويرى العلامة أوريجانوس أن عبارة "صرة نقطة المرّ" تُشير إلى تعاليم الكنيسة الخاصة بالتجسد الإلهي، التعاليم التي تربط بالحق وتحزمه، فلا يتسرب إليها هرطقات. أما النفس التي تلمس الهرطقات – التعاليم غير المربوطة – فتصير دنسة.
3. يرى العلامة أوريجانوس أن التعبير هو "صرة نقطة المرّ"... فإن الله الكلمة غير المحدود صار بتجسده "كنقطة"، مخليًا ذاته حاملًا طبيعتنا.
4. يرى العلامة أوريجانوس أيضًا أن كلمة "حبيبي" هنا هي "ابن أخي" أو ابن أختي My Nephew، ولما كان المتحدث هنا هو كنيسة الأمم، فإن جماعة الأمم تمثل أختها البكر في التعرف على الله، وقد جاء السيد المسيح من اليهود حسب الجسد فتقول الملكة "صرة نقطة المرّ ابن أختي ليّ" إنما يُشير إلى ميلاد السيد المسيح حسب الجسد.
5. لم تقل الملكة "في قلبي يبيت" بل بين ثديي يبيت، ولعل هذا التعبير مأخوذ عن العادة القديمة أن تعلق الزوجة في عنقها سلسلة بها صورة مصغرة لزوجها الغائب علامة حبها وولائها له، إذ تستقر الصورة على صدرها[54].
وكما أن للملك ثديان هما "العهد القديم والعهد الجديد"، بهما تتغذى كنيسته فأن الملكة لها ذات الثديان. فإن كتاب الله إنما هو كتاب الكنيسة، يفرح الرب حين يجد كنيسته تقدم للعالم كلمته غذاء للنفوس.
6. أخيرًا تدعوه أن يبيت بين ثدييها وكأنها تقول له مع هوشع النبي: "أنيّ أعزل زناي عن وجهي وفسقي من بين ثديي" (هو ٢: ٢) حتى تجد لك مسكنًا في أيها القدوس. لتدخل وتبت الليل كله، فأنيّ ما دمت في ظلمة هذه الحياة الزمنية أحتاج إليك... لتدخل حتى يفيح نهار الأبدية. لتبت بين ثدييّ، فأخفيك يا إلهي داخلي، لن أخليك، فليس ليّ غيرك!.
16هَا أَنْتَ جَمِيلٌ يَا حَبِيبِي وَحُلْوٌ، وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ. 17جَوَائِزُ بَيْتِنَا أَرْزٌ، وَرَوَافِدُنَا سَرْوٌ. [١٦].
بالروح القدس تطلعت الكنيسة إلى عريسها الملك فرأته بحق جميل في محبته وحلو، وكأنها أدركت أن كل جمال فيها إنما يرجع إليه. وكما يقول العلامة أوريجانوس[60]: [يبدو أن العروس قد رأت جمال عريسها بأكثر قرب، وأدركت بعينيها اللتين دعيتا "حمامتين" جمال كلمة الله وعذوبته. فإنه بالحق لا يستطيع أحد أن يدرك أو يتعرف على عظمة سمو الكلمة ما لم يتقبل أولًا عيني حمامة، أي ينعم بالإدراك الروحي].
وكان من ثمرة هذا الإدراك الروحي لجمال الملك العريس وعذوبة أعماله الخلاصية أنها دخلت معه في اتحاد أعمق، وهي بعد مرتبطة بالجسد في هذا العالم، فقالت:
"سَرِيرُنَا أَخْضَرُ" [١٦].
ما هو هذا السرير الذي يُنسب للملك والملكة (سريرنا)، إلاَّ الجسد الذي تستريح فيه النفس، والذي يتقبل سكنى الرب فيه؟ فجسدنا لم يعد بعد ثقلًا على النفس ولا مقاومًا لعمل الله، لكنه تقدس وصار هيكلًا للرب تستريح فيه نفوسنا ويفرح به الرب. فيه يلتقي الله بالنفس البشرية وخلاله تنعم نفوسنا بالشركة مع الله، ويكون لها ثمر الروح... لذلك دعي "أخضر" أي مثمر!
في هذا يقول العلامة أوريجانوس[61]: [بالرغم من أن النفس لا تزال في الجسد لكنها تُحسب أهلًا أن تكون في صحبة كلمة الله... فتمتد القوة الإلهية لتهب الجسد صلاحًا، نزرع فيه نعمة الطهارة والعفة وغيرهما من الأعمال الصالحة].
لا تقل الملكة "سريري" بل "سريرنا" فإن جسدها لم يعد ملكًا لها وحدها، بل ملك للعريس الملك، لذلك دعى الرسول بولس أجسادنا أعضاء المسيح (١ كو ٦: ١٥). لقد حملت أجسادنا انعكاسًا للوحدة الداخلية بين الكلمة الإلهي والنفس.
والسرير الأخضر يعلن أيضًا "سرّ التجسد"، فهو جسد الملك، إذ أخذ الكلمة الإلهي مالنا... أخذ بشريتنا، وحملنا فيه. هكذا نتطلع إلى جسده كسرير لنا، إذ صار لنا فيه راحة، نرى فيه اتحادنا معه! لقد أثمر جسد الرب طاعة للآب عوض عصياننا، ونقاوة عوض نجاستنا، وغلبة على الشيطان وكل جنوده لحسابنا وباسمنا، بل وتعبد للآب باسمنا، مقدمًا ثمارًا جديدة لحساب البشرية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق