الاصحاح الرابع
. "عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ مِنْ تَحْتِ نَقَابِكِ (صمتك)" [١].
يقول القديس أبدوسيوس[111]: [العينان جميلتان كعيني حمامة لأنها في شبه حمامة الروح القدس التي نزلت من السماء]. لقد سبق فرأينا الرب يشبه كنيسته بعيني الحمامة[112]، لأنها إذ تنظر على الدوام الروح القدس تتجلى صورته على عينيها فيكون لها البصيرة الروحية البعيدة عن كل انطباع أرضي أو جسدي، وتكون بسيطة لا تطلب إلاَّ ما لله، تحب كالحمام، ولا تستريح إلاَّ في أحضان نوح الحقيقي كما فعلت الحمامة التي انطلقت من الفلك.أما كونهما تحت النقاب، فذلك لأن أسرار الروح التي تعاينها عيني الكنيسة لا يستطيع العالم أن يفهمها أو يدركها، فتبقى بالنسبة له كأنها تحت نقاب!.
أما الترجمة الحرفية فهي "في صمتك"، فإن الكنيسة وقد انفتحت بصيرتها لمعاينة أسرار محبة الله الروحية تقف في صمت تتأمل أعمال الله الفائقة، وكما يقول القديس يوحنا سابا[113]: [من شاء أن يتكلم عن محبة الله، فهو يبرهن على جهله، لأن الحديث عن هذه المحبة الإلهية غير ممكن البتة.
عجيبة هي أيضًا المحبة!!
هي لغة الملائكة، ويصعب على اللفظ ترجمتها!...
ليس لنا يا ربي أن نتكلم من الذي لنا عن الذي لك. لكنك أنت تتكلم فينا عنك، وعن كل ما هو لك، كما يحسن لك].
ولعله وصف العينين أنهما تحت النقاب لأن المؤمنين مهما تمتعوا ببصيرة روحية في هذا العالم، لكنها تعتبر كما لو أنها تحت النقاب متى قورنت بالرؤيا في الحياة الأبدية، إذ يقول الرسول: "لأننا نعلم بعض العلم... فأننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهًا لوجه، الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت" (١ كو ١٣: ٩، ١٢).
٢. "شَعْرُكِ كَقَطِيعِ مِعْزٍ رَابِضٍ عَلَى جَبَلِ جِلْعَادَ" [١].
إن كان السيد المسيح هو رأس الكنيسة، فإن الكنيسة هي الشعر المحيط بالرأس[114] الذي يعيش عليه، بدون الرأس لا تساوي شيئًا، ولا يكون لها وجود.
هذا هو شعب المسيح، إنه كقطيع ماعز يرعى على جبل جلعاد العالي، جبل كلمة الله المرتفعة التي تنطلق بقلوب أولاد الله نحو السماء.
كلما أرتفع القطيع على الجبل يراه الإنسان من بعيد في وحدة واحدة، فلا يقدر أن يميز واحدة عن الأخرى... وهكذا إذ نقوم مع الرب ونرتفع خلال كلمة الخلاص إلى فوق ونتمتع برعايته الكنسية لنعيش بروح سماوي تزول عنا روح الفرقة والانشقاق التي علتها الفكر الأرضي وطلب الكرامة الوقتية ومحبة العالم.
إذ نقوم مع الرب نصعد على جبل جلعاد كقطيع الماعز الذي يجتمع معًا على القمم فيُرى من بعيد كشعرٍ صقيل أسود براق لا يدخله الشيب، إذ يجدد الرب كالنسر شبابنا.
أما وصف القطيع أنه رابض على الجبل أي جالس يستريح في كلمة الله بغير عجلة، والمستقر تحت رعاية الله في طمأنينة.
أما اختياره جبل جلعاد فلأسباب كثيرة:
أ. على جبل جلعاد تراءى الله للابان وحذره قائلًا: "أحذر أن تكلم يعقوب بخير أو شر" (تك ٣١: ٢٤)... هكذا يشعر المؤمن بالطمأنينة، لا يقدر أحد أن يمسه...
ب. امتازت منحدرات جبل جلعاد بوفرة العشب، فصار مثلًا لحياة الشبع، فحينما وعد الرب شعبه قديمًا أن يخلصهم من بابل العنيفة ويدخل بهم إلى الشبع قال لهم: "وَأَرُدُّ إِسْرَائِيلَ إِلَى مَسْكَنِهِ فَيَرْعَى كَرْمَلَ وَبَاشَانَ وَفِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ وَجِلْعَادَ تَشْبَعُ نَفْسُهُ" (إر ٥٠: ١٩)، وفي سفر ميخا قيل: "لترع في باشان وجلعاد كأيام القدم" (ميخا ٧: ١٤).
ج. قديمًا كان البلسان ينبت في جلعاد، يُعرف برائحته العطرة التي طالما أطنب الشعراء والمؤرخون القدماء في مدحه، واستخدمه الأطباء في شفاء الجروح والأمراض، لهذا جاء في إرميا النبي: "أَلَيْسَ بَلَسَانٌ فِي جِلْعَادَ أَمْ لَيْسَ هُنَاكَ طَبِيبٌ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تُعْصَبْ بِنْتُ شَعْبِي؟!" (إر ٨: ٢٢). وكأنه على جبل جلعاد يعصب الطبيب الحقيقي – يسوع المسيح – جراحات شعبه ويشفي أمراضهم ببلسان دمه المبذول على الصليب.
د. حين دخل جدعون في حرب مع جيش المديانيين اجتمع اثنان وثلاثون ألفًا من الشعب للحرب، لكن الرب قال لجدعون: "من كان خائفًا ومرتعدًا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد" (قض ٧: ٣). فلا يهتم الله بكثرة العدد لكنه يطلب مؤمنين مجاهدين لا يعرفون الخوف ولا الرعب! هذه هي كنيسة المسيح الحقيقية التي حملت سلطانًا أن تدوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو، تعيش في ثقة كاملة بغير خوف.
٣. "أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ الْجَزَائِزِ (المجزوزة) الصَّادِرَةِ مِنَ الْغَسْلِ" [٣].
لاق بالكنيسة أن يكون لها أسنان، فقد نمت ونضجت ولم يعد يكفيها لبن التعليم، إنما تطلب دسمه، تمضغه وتهضمه في حياتها.
يقول القديس أغسطينوس أن أسنان الكنيسة هم خدامها الذين يمضغون الطعام كالمرضعات ويقدمونه لبنًا للأطفال الصغار في الإيمان. هذه الأسنان مختلفة الأصناف من أنياب وضروس... لكنها تعمل لغاية واحدة وبروح واحد للبنيان.
بهذه الأسنان طلب الرب من بطرس الرسول أن يأكل الحيوانات بعد ذبحها، ولا يقول عن شيء ما أنه نجس أو دنس. فالكنيسة تعمل على الدوام – خلال خدامها – لتقدم كلمة الخلاص للجميع، تذبح نجاسات الشر وتمضغ الأمم الوثنيين وتمزق شرهم وأخطاءهم حتى يصيروا أعضاء في جسدها[115].
الخادم كالغنمة المجزوزة، يقص صوفها... أي يقطع عن نفسه أفكار الجسد وأعماله بواسطة الروح القدس الذي وهب له في جرن المعمودية (الغسل). فإن الصوف في الكتاب المقدس يُشير إلى الحياة الجسدية، لهذا كان محظورًا على الكهنة في العهد القديم أن يدخلوا القدس بثياب مصنوعة من الصوف، إنما تكون ثيابهم من الكتان علامة برّ المسيح. كما أكدت الشريعة الموسوية "لا تلبس ثوبًا مختلطًا صوفًا وكتانًا معًا" (تث ٢٣: ١١)، "لأنه أية خلطة للبر والأثم، وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال، وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟!" (٢ كو ٦: ١٤-١٥).
٤. "اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ وَلَيْسَ فِيهِنَّ عَقِيمٌ" [٣].
الطفل الطبيعي غالبًا ما تنبت في لثته الأسنان مثنى مثنى، وهكذا كان الله يرسل تلاميذه – أسنان الكنيسة – أثنين أثنين للكرازة، لعله كي ينطق الواحد بكلمة الكرازة بينما يصلي له الآخر حتى تخرج الكلمة ممسوحة بالنعمة الإلهية.
ولما سُئل القديس باخوميوس لماذا سمح أن يعيش الرهبان في قلاياتهم، كل أثنين معًا، أجاب لأنه إن سقط واحد الآخر يقيمه.
ويرى القديس أغسطينوس[116] في عبارة "وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ" إشارة إلى الوصيتين المتكاملتين معًا "محبة الله" و "محبة القريب" إذ بهما يكمل الناموس والأنبياء (مت ٢٢: ٤٠). بينما يرى القديس كيرلس الأورشليمي[117] أنها تُشير إلى النعمة المزدوجة أي أن يتكمل الإنسان بواسطة الماء والروح أو خلال النعم التي أشار إليها العهدان: القديم والجديد.
ويعلق القديس چيروم على هذه العبارة قائلًا[118]: [إن كان ليس فيهن عقيم فإنه يلزم أن يكون للكل أضرعًا مملوءة لبنًا، قادرين أن يقولوا مع الرسول: "يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غلا ٤: ١٩)، "سقيتكم لبنًا لا طعامًا" (١ كو ٣: 2).
أخيرًا يمكننا القول بأن من تمتع بكلمة الخلاص عن طريق أسنان الكنيسة النقية، أي خدامها الحقيقيين، يلزمه ألاَّ يبقى عقيمًا بل يلد أكثر من واحد، أي يكون له ثمر مضاعف. يمتثل بالسامرية التي إذ سمعت صوت الرب وتلاقت معه داخليًا نادت مدينة السامرة لكي يلتقوا به مثلها، ولاوي أيضًا الذي جمع زملاءه للتمتع بالمخلص.
٥. "شَفَتَاكِ كَسِلْكَةٍ مِنَ الْقِرْمِزِ. وَفَمُكِ حُلْوٌ" [٣].
إن كان أعضاء الكنيسة جميعًا ملتزمين بالثمر المضاعف فإن سرّ هذا "الشفتين اللتين كسلكة من القرمز والفم الحلو"، أي أن المؤمن ملتزم بالشهادة للمخلص خلال شفتيه وفمه... أما مدلولات هاتين الشفتين وهذا الفم فهي:
أ. في القديم ربطت راحاب الزانية حبلًا من القرمز في الكوة دليل إيمانها بالرب المخلص واحتمائها بدمه غافر الخطايا وإقرارها بملكيته عليها وعلى بيتها، فأُنقذت هي وكل من في داخل بيتها من الهلاك. هذه صورة حية للمؤمن الذي يربط كل ما يخرج فمه بالدم الكريم، شاهدًا للرب بكلماته كما بأعماله حتى يدخل بالجميع إلى بيت الله ويخلص الكل من الهلاك.
ب. إذ أراد الجند أن يسخروا من السيد ألبسوه ثوبًا قرمزيًا علامة الملك. أما الكنيسة وقد اتحدت بالملك صارت شفتاها كسلكة من القرمز، لا يخرج منها غير لائقة بها كملكة أو عروس للملك السماوي.
ج. شفتا العروس كسلكة رفيعة مما يجعل فمها حلوًا، لا تخرج منه كلمة جارحة، لا يغش ولا يداهن، لكنه يترفق بالكل ويحب الجميع.
٦. "خَدُّكِ كَفِلْقَةِ رُمَّانَةٍ تَحْتَ نَقَابِكِ" [3].
كان ثوب رئيس الكهنة وأفوره تزين برمان مطرز (خر ٢٨: ٣٣، ٣٤؛ ٣٩: ٢٤–٢٦)، كما زين الهيكل في مواضع مختلفة بمنحوتات على شكل الرمان (١ مل ٧: ١٨). هكذا يُشير الرمان للزينة، تتجمل به الكنيسة بكونها ثوب السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم، والهيكل الذي يقطنه روحه القدوس.
وقد خص الخد بالرمان، لأن الخد يُشير إلى ملامح الإنسان، عليه تظهر علامات الفرح أو الحزن، السلام أو الضيق، فملامح الكنيسة جميلة، مفرحة ومملوءة سلامًا.
لم يقل "خدك كرمانة" بل كفلقة رمانة"، لكي يظهر ما بباطنها، إذ هي غنية بالبذور المكتنزة بالعصير الحلو الأحمر، دائمة النضرة، لا تعرف الضمور!.
خدها كفلقة رمانة، مملوءة احمرارًا، سرّ جمالها هو دم السيد المسيح الذي يُقدسها فلا يكون للدنس أثرًا في داخلها. هذا كما يُشير هذا الاحمرار إلى احتشام النفس وحيائها، فهي لا تُشاكل أهل هذا العالم في العجرفة وصفاقة الوجه.
أما كون خدها "تحت نقابها"، فسرّه ليس الخجل من الناس، بل أعلان حقيقة مجدها أنه من الداخل (مز ٤٥).
4عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ. أَلْفُ مِجَنٍّ عُلِّقَ عَلَيْهِ، كُلُّهَا أَتْرَاسُ الْجَبَابِرَةِ
غالبًا ما يربط الرب جمال الكنيسة بجهادها حتى يفهم المؤمنون أن جمالهم في المسيح يسوع سرّه أيضًا جهادهم الروحي القانوني فلا يبقى خد الكنيسة جميلًا كفلقة رمانة بدون العنق المنتصب كبرج داود المبني للأسلحة، أي بدون الإيمان الحيّ المستقيم غير المنحرف المرتبط بالجهاد.
خلال هذا العنق، الذي هو الإيمان، يرتفع وجه الكنيسة إلى السماء فيشرق الرب عليه بنوره، يجعلها تعيش مستقيمة، ليست كالمرأة المنحنية نحو الأرض (لو ١٣: ١١– ١٦)، بل منتصبة ترى في الله سرّ قوتها وجهادها. تسمعه يقول لها: "أنا ترس لك" (تك ١٥: ١)، خلاله تحتمي من كل سهام العدو الملتهبة نارًا (أف ٦: ١٦).
لقد شبه عنقها ببرج داود، إذ يمثل داود الإيمان الذي حارب جليات الجبار وغلبه قائلًا له: "أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود" (١صم ١٧: ٤٥). داود النبي أعلن في مزاميره أن الله هو ملجأه وحصن حياته، وفي نفس الوقت لا يكف عن الجهاد.
لقد أعتاد القادة الجبابرة أن يعلقوا أتراسهم على البرج ذكرى انتصاراتهم الباهرة ولإبراز بطولتهم، هكذا يستخدم المؤمنون هذا البرج الروحي الذي هو الإيمان كمركز لنصرتهم في المسيح يسوع وغلبتهم على العدو الشرير.
أما ذكر عدد الدرع "ألف" فتُشير إلى طبيعة هذه الأسلحة، إذ رقم ١٠٠٠ يُشير إلى الحياة السماوية، وكأنه يقول أن أسلحة الكنيسة سماوية روحية، كقول الرسول بولس: "أن أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون" (٢ كو ١٠: ٤).
5ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْ ظَبْيَةٍ، تَوْأَمَيْنِ يَرْعَيَانِ بَيْنَ السَّوْسَنِ. 6إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ، أَذْهَبُ إِلَى جَبَلِ الْمُرِّ وَإِلَى تَلِّ اللُّبَانِ " [٥-٦].
إن كان السيد المسيح يظهر للكنيسة متمنطقًا عند ثدييه بمنطقة من ذهب (رؤ ١: ١٢) إذ يُقدم العهدين القديم والجديد كثديين ترضعهما الكنيسة وتتقوت بهما، فإن الكنيسة أيضًا وهي كنيسة المسيح صار لها هذان العهدان كثديين يتقوت بهما أولادها.
تظهر كلمة الله الواردة في العهدين كتوأم من الغزلان الصغيرة وُلدا من أم واحدة، إشارة إلى تكامل العهدين معًا دون تمييز بينهما، فإن العهد القديم تنبأ عن العهد الجديد، والآخر كشف الأول وأوضحه.
وقد رأينا أن السوسن يُشير إلى جماعة المؤمنين الذين تشبهوا بالسيد المسيح نفسه "سوسنة الأودية" (نش ٢: ١)، ويُشير إلى طاقات الإنسان الداخلية وعواطفه ودوافعه التي تصير غذاء لكلمة الله الحيّ!
أمام هذا المديح الذي صار للعروس من جهة بصيرتها الداخلية واحتشامها وجهادها في وحدة الروح وعملها الكرازي وخصوبتها ورقتها وإيمانها وتمسكها بكلمة الله... تعلن العروس لعريسها أن سرّ هذا كله هو صليب العريس وقيامته، لهذا تتعهد أمامه أن تذهب معه إلى جبل المرّ تدخل معه حياة الألم، وتُدفن معه في القبر كما تذهب معه إلى تل اللبان فتحيا كل أيام غربتها في صلاة دائمة حتى يفيح نهار الأبدية ونتهزم ظلال الزمن.
11شَفَتَاكِ يَا عَرُوسُ تَقْطُرَانِ شَهْدًا. تَحْتَ لِسَانِكِ عَسَلٌ وَلَبَنٌ، وَرَائِحَةُ ثِيَابِكِ كَرَائِحَةِ لُبْنَانَ [١1].
ماذا يرى الرب في عروسه المجاهدة المتألمة؟ إنه يراها كالنحلة إذ قيل عنها "النحلة ضئيلة بين الطير وشهدها أعذب ما يستساغ من الطعام" (ابن سيراخ 3: 11). يعلق القديس غريغوريوس النيصي على ذلك قائلًا: [النحلة محبوبة من كل أحد، ويقدرها الجميع، فبالرغم من ضعف قوتها لكنها تحمل حكمة علوية وتسعى دومًا لبلوغ حياة الكمال]. هذا هو سرّ الشهد الذي يقطر من شفتي العروس والعسل الذي تحت لسانها، لهذا يقول القديس: [يليق بنا أن نطير على مروج التعاليم الموحى بها، ونجمع من كل منها في مخازننا التي للحكمة. هكذا يتكون العسل في داخلنا وكأنه ذلك المحصول الحلو الذي يخزن في قلوبنا كما في خلية نحل، وبواسطة التعاليم المتنوعة تتشكل في ذاكرتنا مخازن على مثال الخلايا الشمعية التي لا تهلك. يلزمنا أن نكون كالنحلة فإن عسلها حلو ولدغتها لا تؤذي، ننشغل في عمل الفضيلة الهام. إنها تنهمك بالحق في تحويل أتعاب هذه الحياة إلى بركات أبدية، وتقديم جهادها لصحة ملوك وعشب. هكذا أيضًا النفس تجتذب العريس، ويعجب بها الملائكة، الذين يكملون قوتها في الضعف خلال الحكمة المكرمة[130]].
ماذا يرى الرب أيضًا في عروسه المجاهدة المتألمة؟ إنه يراها الأرض المقدسة التي تفيض عسلًا ولبنًا (خر ٣: ٨، ١٧).
لقد قدم الرب عروسه المجاهدة المتألمة في أروع صورة، فإن كان الرب قد وعد شعبه قديمًا بأرض تفيض لبنًا وعسلًا لتكون بالنسبة لهم موضع راحة جسدية ومكان شبع جسدي ومركزًا للعبادة عليه، فإن عروسه بدورها تصير هي نفسها موضع راحة الرب، يستريح في داخلها الثالوث القدوس، تفيض من ثمر الروح لبنًا وعسلًا يشتهيه الله وملائكته ويفرح به القديسون، بل ويفيض حتى على غير المؤمنين.
في وسط آلام المؤمن يرى الرب شفتيه تقطران شهدًا ولسانه يخفي عسلًا وصدره مملوء لبنًا روحيًا.
أما عن الشهد الذي يقطر من شفتيه فيُشير إلى كلمات النعمة التي تصدر من فم المؤمن، قليلة تتساقط كقطرات (تقطر) لكنها حلوة وشهية! تعطي للمستمع بركة وعذوبة داخلية وراحة في النفس!
أما عن العسل فهو كالكنز المخفي "تحت اللسان" يقدمه المؤمن للآخرين في غير مظهرية أو حب للاستعراض... كنز وغذاء يصلح للناضجين!.
ترى ماذا يكون هذا العسل المخفي إلاَّ "كلمة الله" الحيّ الذي دُعي بالمن السماوي والذي كان رمزه المن النازل على الشعب القديم "طعمه كرقاق بعسل" (خر ١٦: ٣١). إذ أكل حزقيال النبي كلمة الله قال: "صار في فمي كالعسل حلاوة" (حز 3: ٣)، كما وصفه المرتل هكذا: "ما أحلى قولك لحنكي أحلى من العسل لفمي" (مز ١١٩: ١٠٣)، "أحكام الرب حق عادلة كلها. أشهى من الذهب والإبريز الكثير وأحلى من العسل وقطر الشهادة" (مز ١٩: ٩-١٠). كما طالبنا سليمان الحكيم أن ننعم بأكل كلمة الله الحسنة إذ قال: "يا ابني كل عسلًا لأنه طيب" (أم ٢٤: ١٣)، "الكلام الحسن شهد عسل حلو للنفس وشفاء للعظام" (أم ١٦: ٢٤).
على أي الأحوال، حينما يتحدث الرب عن رعايته لشعبه يؤكد لهم أنه قدم لهم عسلًا إشارة إلى عذوبة عطيته، أو حلاوة كلمته في فمهم، إذ يقول: "أكلت السميذ والعسل والزيت وجملت جدًا جدًا فصلحت للمملكة" (حز ١٦: ١٣)، "من الصخرة كنت أشبعك عسلًا" (مز ٨١: ١٦)، "أرضعه عسلًا من حجر" (تث ٣٢: ١٣). عسل كلمة الله هو سرّ جمال شعبه حتى يصلح أن يصير ملكة، وسرّ شبعها وارتوائها: هذا الذي يقوت شعبه بالعسل يعود فيجد عسله هذا مخفيًا تحت لسان عروسه فيفرح بها!.
إن كان الرب يُقدم عسله خلال لسان عروسه ليشبع الناضجين، فإنه يملأ صدرها باللبن غير الفاشي حتى يجد الأطفال لهم موضعًا في كنيسته وراحة لدى عروسه. وكما يقول القديس غريغوريوس النيصي[131]: [الإنسان الذي يعرف كيف يتحدث مع كل نوع من البشر وله تحت لسانه قوى مختلفة للكلمة الإلهية (عسلًا ولبنًا)، هو ذاك الذي يقدر أن يقدم لكل واحد ما يناسبه حسب قدراته في الوقت المناسب].
كلنا يعلم أن الإنسان وسط آلامه وضيقاته يزهد في ملبسه، لكن العريس هنا يشتم رائحة العروس وسط آلامها كرائحة صلاة (لبان) نقية! إنه يسمع لتنهداتها وطلباتها لأنها في حالة تألم! يصغي إليها ويستجيب طلباتها لأنها منكسرة القلب! بهذا يخلع المؤمن - في جهاده الروحي - ثيابه الأرضية لكي يلبس الروح القدس ثياب السماء التي لا تبلى: "محبة، فرح، سلام..." (غلا ٥: ٢٢). هذا هو عمل الروح في حياة العروس المتألمة!