طول أناة الله تقود إلي التوبة أو إلي الدينونة أي العقاب، فلا تظن يا أخي القارئ العزيز، إذا أطال الرب أناته عليك في كل أخطائك وخطاياك المتكررة أنك بعيد عن العدل الإلهي، انما هي فرصة تمنح لك لكي تغير مسلكك، وإلا...
كذلك اذا احاطت بك التجارب والضيقات، ولم يسرع الله إلي معونتك، لا تظن أنه قد تخلي عنك، كلا، بل هو بطول أناته يعد الوقت المناسب الذي يبعد فيه كل ضيقة عنك، تأمل مثلا قصة يوسف الصديق، وكيف طال به الزمن في عديد من الضيقات، وأخيرا دبر الله الفرصة المناسبة التي جعله فيها الرجل الثاني في مصر، ورفع من شأنه جدا.
إن قصة يوسف الصديق هي درس لنا، لذلك أطل أنت أناتك في كل ضيقاتك، وثق أن معونة الله لابد ستأتيك في الوقت الذي يراه مناسبا، كما أن الله ـ بطول أناته ـ إنما يعطينا نحن أيضا درسا في الصبر وفي التعامل مع الناس... قد يتضايق البعض من معاملات الناس له، ومن أسلوبهم الذي لا يحتمله، ويطلب إليهم أن يغيروا أسلوبهم فلا يغيرونه، وربما تطلب الزوجة هذا الطلب من زوجها فيظل كما هو.. ولكن علينا أن نعرف أن طباع الناس تحتاج إلي وقت لكي يمكنهم أن يغيروها، وليس من السهل عليهم أن يغيروا أسلوبهم بسرعة، والأمر يحتاج منا إلي طول بال، وبخاصة لو كان أسلوب الناس قد تحول إلي طباع فيهم، فالبعض منهم لا يشعر أنه علي خطأ، ولا يريد أن يتغير، والبعض يريد ولا يستطيع. كذلك فإن طول البال يحررنا من الغضب علي الناس، ويعطي العقل فرصة أن يتدبر الأمر، وعموما فالإنسان الطويل البال، هو إنسان بطئ الغضب.
نفس الوضع بالنسبة إلي التعليم والارشاد، يحتاج ذلك ايضا الي طول بال مع التلميذ حتي يقبل الدرس، وحتي يتفهمه ويهضمه، ثم يغرسه في ذاكرته، ثم لا ينساه، إن المدرس الضيق الصدر لا يمكنه ان يفيد تلاميذه، فبعضهم لا يفهم بسرعة، ويحتاج مدرسه إلي ان يطيل أناته عليه حتي يفهم، وحتي يحفظ، ولامدارس تطيل اناتها علي الراسبين ايضا، فالذي لا ينجح من الدور الاول يعطونه فرصة في الدور الثاني لكي ينجح ويعوض ما قد فشل فيه من قبل.
أتذكر انني منذ ستين عاما اخذت درسا روحيا في طول البال من احد تلاميذي، كان طالبا في احدي المدارس الاجنبية التي كنت مدرسا فيها، وقد طلب مني ان اعطيه درسا خاصا في مادة هو ضعيف في استذكارها، فأعطيته الدرس الأول ومعه واجب كانت نتيجة اجابته صفرا، ثم اخذ الدرس الثاني ومعه ايضا واجب ليحله، وبالمثل كانت نتيجته صفرا كسابقه، فتضايقت وقلت له انت بهذا الشكل لا يمكن ان تنفع، فعاتبني هذا التلميذ وقال لي لماذا تثبط همتي، وانا بذلت كل جهدي وتحسنت؟!. فتعجبت من كلامه وسألته أي تحسن هذا ـ وقد اخذت صفرين متتاليين؟! فقال لي في الواجب الأول كانت لي18 غلطة فأخذت صفرا، وفي الواجب الثاني كانت لي12 غلطة فقط فأخذت صفرا، انه بلا شك تحسن ولو انه تحت الصفر، اذ قلت الاخطاء، فبشيء من التشجيع يمكن ان اتحسن اكثر، واصعد من تحت الصفر وآخذ درجة. ومن ذلك الحين، وحتي الآن، مازالت في ذهني عبارة التحسن تحت الصفر، فأطلت بالي علي ذلك التلميذ الذي صار فيما بعد مهندسا كبيرا.
إننا نحتاج ايضا ان نطيل بالنا علي الاطفال حتي ينمو تفكيرهم، وينضج ادراكهم، فيتحولون من مرحلة اللهو الي الجدية، ولاشك لابد ان يأخذ ذلك زمنا، وهكذا تخطئ الام التي تضجر من تصرفات طفلها، فتنهره او تضربه علي اخطاء هو لا يعرف انها اخطاء، ومن المفروض ان تتصف بطول البال حتي يمكنها ان تتعامل مع الطفل بما يناسب عقليته ونفسيته في تلك السن.
بالمثل في الارشاد الروحي، قد يبذل المرشد وقتا وجهدا في قيادة شخص الي التوبة، ثم يلاحظ انه لم يتب بعد، فيدركه اليأس منه، وهذا خطأ، لأن التوبة لا تأتي هكذا بسرعة، إذ توجد معوقات كثيرة من التعود السابق علي الخطية، ومن شهوات القلب، ومن المحاربات الخارجية، والامر يحتاج الي طول بال من المرشد، ومداومة التشجيع.
ان يئس المرشد من امكانية توبة الخاطئ، فسوف يتركه الي الضياع والهلاك وهكذا اذا يئس الطبيب من علاج مريضه فسيتركه الي الموت لا محالة، الامر في الحالين يحتاج الي طول بال. وكثير من الامراض تحتاج الي صبر من المريض والطبيب حتي يتم الشفاء منها، او علي الاقل حتي تتحسن الحالة ويمكن احتمالها..
في مجال العمل ايضا: اذا قام شخص بمشروع، ليس له ان ينتظر نجاح مشروعه من اول خطوة، بل عليه ان يطيل أناته حتي يعرف مشروعه وينتشر، وتنفتح امامه الاسواق، وتنتصر علي المنافسات، ويدخل في تجربة الربح والخسارة، ويستقر اخيرا. ان طول البال يلزم في كل المجالات في العلاقات السياسية والاجتماعية، وفي السياسة والاقتصاد، وفي الحصول علي عمل، بل وفي الوصول الي كمال الديمقراطية، وكقاعدة عامة لا يمكن الوصول الي الكمال من اول خطوة، انما بالتدرج والصبر. والانسان الذي ليس له طول بال، ما اسهل ان يقع في القلق والضجر والانزعاج، وتتعب نفسيته ويفقد سلامه الداخلي، وقد يصاب بالاندفاع والتسرع مما تكون له نتائج سيئة، وربما في تسرعه يأخذ قرارات او مواقف ارتجالية او عشوائية، وبعض الناس ليس لهم طول بال في حل مشاكلهم، فيلجأون الي السحرة والمشعوذين لعلهم يجدون عندهم حلا.
مقال قداسة الانبا شنوده الثالث – بابا الاسكندرية 117 وبطريرك الكرازة المرقسية – في جريدة الأهرام – السنة 133 – العدد 44659 – يوم الأحد الموافق 15 مارس (آذار) 2009 ميلادية، 6 برمهات 1725 شهداء (قبطية)، 18 ربيع الاول 1430 هجرية (للهجرة) – الصفحة العاشرة (10)، قضايا وآراء،
http://www.ahram.org.eg
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق